الفصل الأول

في أول الطريق:

أرى من المناسب ان يطّلع القارئ على طبيعة سيرتي الاجتماعية والثقافية ابتداءً من دخولي للمدرسة وما تبع من دراسة وتعيين وتنقلات دراسية الى ان اصبحت سفيراً للعراق في لندن وفي الامم المتحدة ووكيلاً لوزارة الخارجية وتلك ثلاثة مناصب مهمة لا اعتقد انه قد تسنى لغيري الاحتفاظ بها او الحصول عليها مجتمعة اثناء خدمته في الخارجية العراقية.

ولدت في النجف من ابوين عربيين عراقيين بالولادة وكان ذلك في سنة 1922 وكان ابي واعمامي يعملون في التجارة والزراعة (تجارة الحبوب وزراعتها) وكانت لهم مقرات في الكوفة في اغلب الاحيان لان الكوفة آنذاك كانت هي المركز التجاري لمنطقة الفرات الاوسط بصورة عامة والنجف بصورة خاصة وقد دخلت المدرسة في سن السادسة او السابعة من عمري بعد ان كنت فقدت ابي قبل سنة او أقل من ذلك من ذلك التأريخ ودخلت المدرسة الابتدائية الاولى وتخرجت فيها بعد خمس سنوات ثم دخلت ثانوية النجف وكانت النجف هي البلدة الرابعة التي فيها ثانوية في العراق اذ كانت حين ذاك اربع ثانويات في بغداد والموصل والبصرة والنجف وكان بعض الاساتذة من الاخوان اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين وذلك لقلة ما كان يتوافر في العراق من اساتذة اكفاء يستطيعون ان يدرسوا في الثانويات ولا ازال اتذكر عدداً من الاساتذة الذين كانوا يجمعون اللطف والمجاملة والعلم وحسن المعاملة للطلاب ولم اكن من بين الطلاب الممتازين دراسياً، بل كنت من حيث الدراسة متوسط المستوى ولكنني كنت في ذلك الوقت واعني في الثانوية ضمن الفرق الرياضية المعروفة للثانوية. اذ كنت مشاركاً في فريق ثانوية النجف لكرة القدم والسلة والطائرة واتذكر اننا ذهبنا الى الحلة وكربلاء والديوانية لاجراء بعض الالعاب او بعض المباريات والمسابقات في ذلك الحين وكانت لنا بعض الحوادث الطريفة لا مجال لذكرها في هذه العجالة ولكنني ما ازال اتذكر عندما افتتحت الثانوية في كربلاء، ذهبنا لنتنافس مع فريق كربلاء في كرة الطائرة وكرة القدم والمصارعة وكيف كانت المواجهات بين النجفيين والكربلائيين حينما اضطرت الشرطة بعد مباريات المصارعة ان تعيدنا الى النجف لان انتصار المصارع النجفي على المصارع الكربلائي ادى الى ان يهب الكربلائيون لا للاعتداء علينا وانما للانتقام منا لذلك الحدث، فكان ان الغيت مباريات كرة القدم في ذلك اليوم بسبب ما حصل بعد المصارعة.

وكان من بين زملائي في الثانوية حينذاك الاستاذ الصديق العزيز عبد الغفار الحبوبي الذي احتفظ له بمشاعر الود والمحبة والصداقة ومازلت التقي به بين حين واخر في الوقت الحاضر والاستاذ الحبوبي اتجه بعد الثانوية الى الدراسة العالية ثم مارس التدريس في ثانويات مختلفة في بغداد وغيرها وكان كما اتذكر اخرها ثانوية الاعظمية التي ما يزال يتذكر عهده فيها بعض الاخوان ممن لهم مراكز عالية في الوقت الحاضر. وكان ايضاً من اصدقائي الدكتور المرحوم فيصل الوائلي الذي اصبح لمدة من الزمن مديراً عاماً للاثار وكذلك الاستاذ المرحوم خليل حمودي الذي تولى مناصب مالية وادارية في وزارة المالية وغيرها. ثم شفيق صبري القيمقجي الشاعر ولست ادري اين هو الآن. هذه لمحة قصيرة عن دراستي الثانوية.

وبهذه المناسبة نسيت ان اذكر عند حديثي عن ايام الثانوية انني كنت ايضاً بالاضافة الى اهتمامي بالرياضة معنياً بالادب والشعر، فقد كنت اتردد على مكتبة النجف الادبية والعلمية التي كانت حينذاك من اوائل المكتبات الرسمية التي افتتحت في الاقضية العراقية واطلعت في اثناء ترددي على تلك المكتبة على عدد كبير من الكتب والاثار الادبية لمؤلفين وشعراء كبار امثال ابن الرومي وابي نؤاس والمتنبي وغيرهم وكذلك الكتّاب امثال الزيات والمنفلوطي وجرجي زيدان وغيرهم. ومن هنا اصبحت لدي هواية وامكانية شعرية وادبية بسبب تعلقي بتلك الكتب الادبية والشعرية واهتمامي بها، كما كنت ايضاً مهتماً بمجلة الرسالة ومجلة الثقافة ومجلات اخرى تصدر في البلدان العربية وترسل الى المكتبة واذكر بهذه المناسبة حادثة حدثت لي عندما كنت اتردد على جمعية الرابطة العلمية الادبية وكنت طالباً في الثانوية لاتعلم واتفهم من اعضائها اسرار الشعر والادب وكان بينهم الاساتذة الذين اشرفوا على اشعاري عندما كنت انظم الشعر وهم الاساتذة محمود الحبوبي، صالح الجعفري، ومحمد علي اليعقوبي الاعضاء في تلك الرابطة العلمية الادبية في النجف واذكر انني في يوم من الايام ارسلت قصيدة الى الاذاعة وكانت تذيع بعض القصائد بين آونة واخرى وكان عنوان قصيدتي (بلادي) وهي منشورة في ديواني الاول (ازاهير واعاصير) وبعد بضعة ايام اذ كنت اتتبع الاذاعة استمعت الى المذيع يقول سأقرأ عليكم قصيدة للاستاذ كاظم محسن الخلف ففوجئت بهذه الصفة وكنت يومها طالباً في الثانوية وقرأ القصيدة بعناية واهتمام وبعد بضعة ايام كانت هناك مناسبة يحتفل بها كل سنة وهي مناسبة عيد القوة الجوية العراقية، فنظمت قصيدة بهذه المناسبة وارسلتها الى الاذاعة مرة اخرى. فاذا بي بعد يومين او ثلاثة استلم برقية من الاذاعة معنونة بما نصه (الاستاذ كاظم محسن الخلف يرجى حضوركم الى الاذاعة في اليوم الفلاني لالقاء القصيدة) وعندما ذهبت الى الاذاعة وقدمت نفسي الى المسؤول استغرب قائلاً لي: (انت قشمرتنه) انت الاستاذ كاظم محسن الخلف؟ قلت: نعم، فسمح لي وقرأت القصيدة حينذاك وكنت فخوراً جداً بتلك المناسبة وبتلك العناية والرعاية التي لقيتها من الاساتذة مسؤولي الاذاعة وصرت بعد ذلك انظم وانشر القصائد في جرائد الزمان والاخبار والعرب وكذلك في مجلات اجنبية منها مجلات بيروتية ومصرية. وظهرت بعض هذه القصائد في دواويني الثلاثة، الا ان بعضها ذهب ادراج الرياح لقدم ظهورها في المجلات والجرائد التي لا يمكنني الان الاطلاع عليها او التفتيش عنها واذكر من تلك المجلات التي كنت انشر فيها مجلة الرابطة المصرية ومجلة الامالي اللبنانية ومجلة الاقتصاد العراقية ومجلات سورية ولذلك اعتذر لانني لا استطيع تقديم تلك القصائد ولعل الزمن سيكشف عنها في المستقبل في مناسبات. كما اذكر في هذه المناسبة انه في تلك الفترة التي كنت اتردد فيها على الرابطة العلمية والادبية في النجف ان حضر الدكتور الاستاذ والمؤرخ الكبير زكي مبارك واحتفت الرابطة العلمية والادبية به وطلب اليَّ بعض اعضائها ان انظم قصيدة في الاحتفال او الاحتفاء بالدكتور زكي مبارك فنظمت قصيدة فيه ذكرها او ذكر عنها في كتابه (ليلى المريضة في العراق) وكان من ابيات تلك القصيدة:

 

   

حي الزكيَّ رسول الفكر والادبِ
ومرحباً بالذي خطت يراعته
قد كنت اقراً عن بعدٍ روائعه

واذكر اني في تلك الفترة او قبلها بقليل نظمت قصيدة في رثاء الملك غازي بعد مصرعه وكنت آنذاك كما قلت في السابق طالباً في الثانوية والقيت القصيدة في احتفال جرى في الثانوية بمناسبة ذلك المصرع الاليم بعد ان كنت قد شاركت مع عدد قليل من زملائي طلبة الثانوية في تشييع جثمان الملك غازي في بغداد وكان تسلسل وفد ثانوية النجف بعد الجثمان مباشرة أي انه متقدم على وفود الالوية الاخرى واتذكر ايضاً ان المرحوم الاستاذ عبود زلزلة مدير الثانوية في النجف بكى بكاءً طويلاً عندما جمعنا في الثانوية حينذاك ليخبرنا عن مصرع الملك قائلاً ان الملك غازي قد صرع فبكينا معه وشققنا جيوبنا وكانت مناسبة حزينة جداً لم نستفق منها الا بعد وقتٍ طويل وقد كان الملك غازي رحمه الله محبوباً من قبل الشعب وكانت اذاعته من قصر الزهور تدعو الى الوحدة العربية بصورة عامة والى وحدة الجوار بصورة خاصة وكانت اذاعة مسموعة لدى الجميع ومحبوبة ايضاً وقد قيل بأن من اسباب مصرعه حينذاك كانت تلك الاذاعة اذاعة قصر الزهور والحديث طويل عن الثانوية.


طالب البعثة:

وعندما انتهيت من دراستي الثانوية قدمت طلباً لانتمي الى البعثة العلمية في تلك السنة وكان على طالب البعثة ان يقدم معدلات عالية جداً بالنظر لقلة عدد الذين كانوا يرسلون الى الخارج ولم تكن درجاتي حينذاك عالية، اذ كانت كما اتذكر حوالي (70%) ولكني حصلت على البعثة لسبب كان مهماً جداً كما يبدو لي فقد اصدر وزير المعارف حينذاك السيد عبد المهدي المنتفكي كما اتذكر امراً بان تكون هناك (كوتا) للمحافظات في العراق لا ان يُقتصر فقط على الدرجات وذلك لان اكثر الثانويات خارج بغداد كانت تفتقر الى الاساتذة وهذا يعني الافتقار الى العلم وعدم اطلاع الطلاب على المواد العلمية بصورة كاملة وشاملة ولذلك كان معدلي كما اتذكر حوالـي (73 او 74) ورشحت الى البعثة على الرغم من انه كان في بغداد مثلاً من يسبقني في المعدل ولكن نظام الكوتا الذي عمل به حينذاك جعلني من المتفوقين في محافظة كربلاء ومن هنا كان اختياري الى البعثة التي كانت حينذاك الى ليفربول ولكن قرب اندلاع الحرب جعلنا ننتظر قليلاً ثم بدلت البعثة من ليفربول الى بيروت فذهبنا الى بيروت وكان عددنا لا يقل عن 30 او 20 شخصاً وكان من بينهم كما اتذكر الاستاذ المعروف الدكتور علي الوردي ولم يكن حينذاك في سن تقارب اعمارنا بل كان اكبر منا بكثير ولكن المدارس كما هو معلوم كانت تضم عدداً مختلفاً من الاعمار بين الطلبة ولم تكن الحالة كما هي الان حيث يدخل الطلاب كلهم في سنين معينة ويتخرجون في سنين متقاربة وكان الاستاذ علي الوردي حينذاك في كلية اللغات التي ابتدأنا بها قبل الذهاب الى بيروت وكانت كلية اللغات في الاعظمية التي درسنا فيها مدة سنة وكان يرأس الكلية او يرأس المدرسة الاستاذ المرحوم ياسين عمر الذي اصبح بعد مدة طويلة موظفاً من موظفي السلك الدبلوماسي الى ان وصل الى درجة وزير مفوض في سفارة العراق في واشنطن وكان اكثر الاساتذة في تلك المدرسة واعني مدرسة اللغات من البريطانيين ولا ازال اتذكر جيداً المستر كنفن الذي كان يوقظنا في الصباح الباكر ويأخذنا بعد ان نكون قد ارتدينا الملابس الرياضية لنركض في الصباح الباكر على شط دجلة ثم نعود استعداداً لدخول المحاضرات.

ثم بعد سنة دراسية كاملة ذهبنا الى بيروت للالتحاق بالجامعة الامريكية ونقلتنا الى هناك السيارات التي كانت معروفة حينذاك وهي سيارات (نيرن) التي كانت مريحة ومكلفة بعض الشيء بالقياس الى السيارات الخاصة وكان عددنا حينذاك عندما وصلنا الى بيروت يزيد على العشرين كما اتذكر وكان من بين الذين ذهبوا معي الدكتور جميل الملائكة والدكتور ناجي عبد القادر والدكتور نجيب خروفة والاستاذ يوسف دواف والاستاذ حسين عبد العال والاستاذ فريد الاحمر والاستاذ فرج تاجريان والاستاذ خليل حموزي والاستاذ محسن الجزائري وغيرهم ممن كانت لهم صولات وجولات في الدراسة في الجامعة الامريكية في بيروت ومنهم من ذهب الى امريكا بعد ذلك للحصول على شهادة الدكتوراه. وعندما وصلنا الى الجامعة اجتمعنا مع مسجل الجامعة الاستاذ فريحان وقدمت لنا كما اتذكر استمارات الانتماء وكانت استمارات عادية يكتب فيها الاسم والبلد والاختصاص وغير ذلك واتذكر جيداً ان من المعلومات التي ذكرت في تلك الاستمارات (المذهب) وانا عندما جئت الى حقل (المذهب) كتبت (مسلم) فقال: شيعي او سني؟ قلت له: مسلم، قال: اذن لا تقبل استمارتك لان الطائفية هنا هي الاصل الموجود في لبنان. ويبدو لي ان القضية منذ ذلك الحين أي منذ خمسين عاماً ما تزال كما هي دولة مؤسسة على اساس طائفي فاضطررت حينذاك ان اكتب انني شيعي ومن النجف. ثم توزعنا على الكليات ثم على الاقسام الداخلية التي كانت عبارة عن غرف كبيرة تضم عدداً من الطلاب وان كان هناك بعض الغرف صغيرة تضم طالبين او ثلاثة على ان يتم دفع مبلغ بسيط اضافي واتذكر انني كنت حينذاك اشترك في غرفة واحدة مع الاستاذ المرحوم الدكتور ناجي عبد القادر الذي توفي منذ حين والذي اشغل مناصب مهمة منها عمادة كلية الهندسة ورئاسة مؤسسة البحث العلمي وغير ذلك ويحضرني كذلك ممن كانوا معنا في الجامعة جواد شلاش وسلمان الاسود الذي اصبح وزيراً للمالية ووزيراً للتخطيط وغيرهم من الذين كانوا زملاء واصدقاء في آنٍ واحد وكان اكثر الاساتذة من الامريكيين عدا بعض العرب الذين اذكر منهم بالخير وبالخير العميم الاستاذ الدكتور قسطنطين زُريق الرائد العربي في القومية العربية والاستاذ جورج حكيم الذي اصبح وزيراً للخارجية في لبنان والذي كان زميلاً لي عندما كنت ممثلاً دائماً للعراق في الامم المتحدة بعد سنين طويلة والاستاذ أسد رستم استاذ التأريخ العربي وغيرهم من الاساتذة المعروفين. وبعد ثلاث سنوات في الجامعة الامريكية وقبلها سنة في مدرسة اللغات في بغداد حصلت على درجة بكالوريوس في ادارة الاعمال وكانت البعثة مكونة من عدد كبير من الاخوان موزعة على مختلف الفروع وكان فرع الهندسة من اكثر تلك الفروع الذي تخرج فيه عدد من اخواني الذين ذكرتهم والذين ذهب بعضهم الى امريكا للحصول على شهادة الدكتوراه، كالاستاذ ناجي عبد القادر والاستاذ جميل الملائكة وغيرهما. والان وبعد سنين طويلة منذ ذلك التأريخ، لو سؤلت عن اسعد ايام حياتي لقلت انها الثلاث سنوات التي قضيتها في بيروت التي قال عنها الشاعر: (الهوى والشباب والامل المنشود).

فكان الشباب وكان الهوى وكان الامل المنشود وهو الحصول على الشهادة الدراسية المرجوه وهي البكالوريوس وشهادة البكالوريوس هي التي ساعدتني بعد بضعة اشهر على الدخول في السلك الخارجي لاُعين ملحقاً ثالثاً في وزارة الخارجية بعد ان كنت قد عُينت معلماً في القرية العصرية انتظاراً لظهور نتائج البعثة. وبعد ظهور النتائج، انفككت من تلك المدرسة في القرية العصرية لاذهب الى الجامعة الامريكية لادرس واتخرج فيها ولم اكن كما كانت الحال في الثانوية من الطلبة المبرزين في الدراسة بل كان مستواي متوسطاً او فوق المتوسط ولكنني كنت معنياً بالرياضة، فتعلمت فيها لعبة التنس كما اصبحت مديراً لفرق كرة الطائرة في الجامعة الامريكية في بيروت وفضلت لعبة التنس على السباحة لانني لم اكن أُجيد السباحة ولم اتعلمها في النجف لعدم وجود نهر في النجف لهذا الغرض. واذكر بالخير بهذه المناسبة لبنان الذي كان يسحرنا بجماله ومناخه وهضابه وبحره وبلدانه المختلفة بمأكولاته ومشروباته قياساً الى ما كانت عليه الحال في العراق. ولا اعتقد ان هناك بلداً يشبه لبنان الذي يفصل فيه البحر عن الجبل بضعة كيلو مترات لذلك كنا نذهب على (الدرّاجات) من بيروت الى عالية وغيرها ونعود في اليوم نفسه بعد ان نكون قد امضينا يوماً ممتعاً لطيفاً جداً وما ازال اتذكر ما جرى في تلك الايام ايام الجامعة الامريكية في بيروت الاستاذ نهاد عبد المجيد عندما خطب احدى رفيقاته في الجامعة وهي العراقي ساهرة القاضي واذكر ان تحسين قدري الذي كان قنصلاً عاماً اقام لهما حفلاً بمناسبة الزواج لانهما طالبان عراقيان وقد طلب مني القنصل العام ان القي قصيدة بهذه المناسبة فقمت باعداد قصيدة لا ازال اتذكر ابياتاً منها والقصيدة منشورة في ديواني الاول ازاهير واعاصير الذي صدر قبل سنوات وقد قلت في تلك القصيدة:

 

 

لولا الجمال وسحره لم يخلق اللَّه البَصَرْ
سحرتك قامتها فلا طولٌ يشين ولا قِصَرْ
نلت المنى لما صبرت وقيس ليلى ما صبرْ

وكانت قصيدة نالت استحسان الحضور كما كانت الحفلة من اعذب والطف الحفلات التي شاهدتها حينذاك فقد جمعت بين شباب وشابات وكان القنصل العام يتنقل بيننا متلطفاً متعطفاً وكان كريماً جداً في تلك الحفلة. وبهذا المناسبة لا ادري كيف نسيت عندما ذكرت اسماء طالبات البعثة العراقية في الجامعة الامريكية في بيروت زميلاتنا العزيزات واللاتي منهن الطالبة الانسة حينذاك بريهان ياملكي التي كانت من اجمل وأأنق فتيات الجامعة الامريكية ومن ضمن الفتيات اللواتي حملن الاعلام العراقية عندما تظاهرن بمناسبة 2 مايس وتصادمن مع الشرطة حينذاك كما ذكرت في مناسبة سابقة وقد سرني في الاونة الاخيرة ان اذكر ان الانسة آنذاك بريهان ياملكي تعمل حالياً استاذة في احدى كليات الجامعة في بغداد واتمنى لها كل الخير والنجاح فيما هي بصدده من عمل وتأليف.

ذكرياتي مع الدكتور علي الوردي:

لقد كان للدكتور علي الوردي دور كبير بيننا نحن الطلبة، فبالإضافة الى انه كان اكبرنا سناً كانت له تجارب خاصة كما ذكر ذلك في كتبه ومذكراته. ومن تلك التجارب كيفية التعامل في السوق ومعاملة الناس كل حسب مستواه ولاننا بحاجة الى تعلم اللغة الانكليزية بأسرع وقت ممكن اذكر انه كان يمنعنا من التحدث باللغة العربية فيما بيننا وقد جعل من يتحدث باللغة العربية غرامة مالية بسيطة عن كل مرة يتحدث احدنا فيها فيما بيننا وكان غرضه من ذلك ان نتعلم اللغة الانكليزية بأسرع ما يمكن واتذكر انه غرمني اكثر من مرة لانني كنت اتحدث بالعربية وكانت النقود التي تجمع وهي مبالغ بسيطة تصرف علينا في مقهى او مطعم او مشرب كما كانت للدكتور علي الوردي جولات وصولات في الاحاديث الاجتماعية التي كان يتحدث منذ ذلك الحين فيها واذكر مرة انه قال لنا (الآن ولم يبق لنا في بيروت او في الجامعة اكثر من سنة وفي بالي ( جنـه قلعه ) ولما سألناه ماذا تعني بذلك قال (الجماعة راحوا الى جنة قلعة يوم او يومين ورجعوا في بغداد سنين طويلة يتحدثون عن جنه قلعه ونحن الان امضينا ثلاث سنوات في بيروت ولا ادري ماذا سأتحدث عنه وماذا سأقول عندما اعود). وعندما عدنا وبعد مدة طويلة وعدت من لندن او باريس في احدى سفراتي الى بغداد ورأيت الدكتور علي الوردي وكان حديث الناس في كتبه ومقالاته وانتقاداته وصولاته وجولاته ذكرته بما قاله لنا في بيروت عن (جنة قلعة) وكيف كان حائراً بماذا سيتحدث الى الناس عن بيروت فقلت له الان اصبحت بأحاديثك الطويلة المختلفة وخصوصاً في العلوم النفسية والاجتماعية وغيرها ابلغ من محدثي جنه قلعة وكرر الحديث الى اخرين اكثر من مرة واذكر انني قلت له انك كما يبدو لي كالمتنبي الذي قيل عنه مالي الدنيا وشاغل الناس وانت ملأت الدنيا الثقافية في العراق وشغلت الناس بمشاكلهم الاجتماعية والثقافية وغيرها، ففرح بذلك وقدر ما تحدثت به امامه وامام الاخرين.

واذكر اننا كنا جميعاً أي طلاب البعثة منصرفين الى الدراسة دون الاعتبارات والمواضيع الاخرى وان كان قد حاول الحزب الشيوعي حينذاك بقيادة خالد بكداش ان يستدرج البعض منا محاولاً ان يضمهم الى صفوفه ولكنه لم ينجح في ذلك الا نادراً وكانت الدراسة في الجامعة الامريكية دراسة علمية بحتة وعلى الرغم مما قيل ان الجامعة قد أُسست لاسباب دينية او سياسية قبل سنين طويلة فاننا لم نشعر لا بالسياسة ولا بالدين في تلك الجامعة اللهم الا ايام الثلاثاء التي كانت تدعى يوم الكنيسة وكنا نلتقي بقاعة كبيرة في الكنيسة ليتحدث الينا كبار الاساتذة من امريكان واخرين وكانت اكثر احاديثهم لا تخص الدين وانما تتحدث عن الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والعائلية. وكان من حق كل طالب يريد الاختصاص بموضوع معين ان يختار درساً او درسين واعتقد درساً واحداً يسمونه الدرس الاختياري بالاضافة الى اختصاصه واذكر جيداً اني اخترت درس التأريخ العربي مع الدكتور قسطنطين زريق وكان لطيفاً معي وقد اخذ عني فكرة جيدة كما يبدو بحيث جعلني محرراً لاحد اعداد (العروة الوثقى) التي كان يشرف على اصدارها حينذاك وكانت اكثر ما تتحدث حول المواضيع القومية والعربية واذكر كذلك وكأنه اراد ان يمتحنني انه طلب مني ان اعد ورقة عن ابن العلقمي وسقوط بغداد فبحثت وقدمت الورقة الى الاستاذ الدكتور زريق فأعجب بها واذكر انني ذكرت حينذاك ان ابن العلقمي كان مسؤولاً عن دخول قوات هولاكو الى بغداد ومما اذكره بهذا الصدد ان ابن العلقمي ارسل جاسوساً بعد ان حلق رأسه وكتب عليه بالوشم الرسالة التي كان يريد ان يرسلها وعندما طال شعره ارسله حينذاك الى هولاكو او انصار هولاكو وطلب منه قص شعره وقراءة الرسالة المرسلة الى هولاكو وقد شعرت حينذاك ان الاستاذ زريق كان يريد ان يعرف ان كنت من المتعصبين مذهبياً او دينياً وكان يساعدني في اكثر الصعوبات التي تحدث لي واني ما ازال اتذكره بالخير وارجو له الرحمة والغفران.

حوادث 2 مايس سنة 1941:

اما فيما يتعلق بالسياسة فاتذكر اننا واجهنا السياسة مرة عندما حدثت حوادث 2مايس في بغداد وكنا حينذاك في الصف الثالث وعندما حدثت الثورة اضربنا عن الدوام نحن الطلبة العراقيين وتضامن معنا كل الطلبة العرب وعندما اضربنا عن الدوام اجتمعنا في القاعة وتحدث فينا المرحوم الاستاذ الدكتور ضياء ابو الحب من كربلاء قائلاً ( لا دراسة بعد اليوم ان اليوم هو يوم الكفاح والنضال). وذهبنا في مظاهرة صاخبة عارمة تتقدمنا فيها فتيات ثلاثة اذكر منهن فاطمة العسكري وساهرة القاضي وثالثة ورابعة كن يحملن الاعلام العراقية والعربية وذهبن الى بيروت معنا والتحق بنا الطلبة العرب وكان أن اغلقت الجامعة ابوابها وكانت لنا جولة مع الشرطة في شوارع بيروت، جرح فيها عدد من الطلبة.

وعدنا الى بغداد بعد ان اشترينا الملابس العسكرية لنلتحق بالقوات المقاتلة ببغداد واخذنا القطار وكان قطار حمولة الى بغداد من بيروت او الشام حسبما اتذكر وعندما وصلنا الى بغداد كانت الحرب قد انتهت وكان الانكليز قد استولوا على بغداد هم وصنائعهم واذكر بهذه المناسبة ان القنصل العام كان حينذاك المرحوم تحسين قدري الذي ابرق بعد ان اتصلنا به مطالبين بالعودة الى بغداد للاشتراك مع القوات المسلحة انه ارسل برقية الى وزارة المعارف فأخبرته وطلبت منه ان نبقى في بيروت ونستمر في الدراسة ولكن الدراسة تعطلت والجامعة اُغلقت واصررنا ان نذهب عائدين الى بغداد وعندما عدنا كما قلت رأينا ان كل شيء قد انتهى. وقد أُحتُسِبت المعدلات في تلك السنة هي الاساس في النجاح والرسوب لاننا لم ندخل الامتحانات وذهبنا من الصف الثالث الى الصف الرابع هكذا بالمعدلات وليس بالامتحانات واذكر انني عندما عدت الى النجف بعد ان وصلنا الى بغداد بعد انتهاء الحرب طُلب اليِّ ان اشترك بقصيدة او خطاب في مظاهرة في اليوم التالي وكانت الوزارة قد تشكلت واتذكر وقد اكون مخطئاً انها كانت وزارة المدفعي، ففي الصباح الباكر دُعيت للاشتراك في المظاهرة وعندما اردت الخروج اتذكر ان الوالدة منعتني واقفلت الباب وهددت بالخروج الى  الشارع بدون عباءة اذا انا ذهبت الى المظاهرة، لذا لم استطع المشاركة وحدثت المظاهرة بدوني وكان يترأسها المرحوم محمد صالح بحر العلوم وبعد المظاهرة أُلقي القبض على بعض الاخوان الذين تظاهروا وخطبوا وكان من بينهم الشاعر محمد صالح بحر العلوم الذي اعتقل وارسل الى نقرة السلمان وقضى فيها سنة كاملة تقريباً. وهكذا كانت نتيجة الحرب العراقية الانكليزية في غير صالح العراق ولا كانت في صالحنا نحن الطلبة والموظفين واتذكر من الطلاب الذين اُخذوا الى نقرة السلمان مزهر منى الذي ارجو ان يكون ما يزال حياً ويقرأ هذه الاوراق التي جاءت على ذكره ضمن الاخوان والاصدقاء الذين اعتز بصداقاتهم وعلاقاتهم في الثانوية وفي الجامعة وبعد ذلك ومما اذكره عن الجامعة ان كان هناك استاذ عربي لبناني هو الاستاذ جان مرهج الذي كان يقيم حفلاً سنوياً لليتيم او عن اليتيم ودعاني باعتباري كنت امارس الشعر الى ان اساهم في ذلك الاحتفال فذهبت الى هناك والقيت قصيدة والقى الشهيد كمال ناصر الذي كان معي في الدراسة قصيدة ايضاً وحضر العراقيون واعجبوا بزميلهم العراقي آنذاك الذي القى قصيدة في اليتيم والقصيدة منشورة في ديواني الاول (ازاهير واعاصير).

ما بعد الجامعة:

بعد التخرج رجعت الى النجف وراجعت في بغداد بعض الدوائر لارى ان كان باستطاعتي ان اتعين في بعضها، فرحب بي كما اتذكر المرحوم الملائكة مدير ضريبة الدخل العام ان اكون موظفاً في دائرته وكذلك وجدت وظيفة في وزارة الاقتصاد وبينما كنت افكر في التفضيل وبأي وظيفة التحق واذا بي اقرأ في جريدة الزمان بأن وزارة المعارف قد عينتني انا وثلاثة او اربعة من الذين تخرجوا معي في الجامعة مدرسين في ثانوية التجارة. في الوقت الذي لم اطلب فيه ان اتعين في وزارة المعارف كما انني لم اقدم أي طلب او أي وثيقة يتطلبها التعيين حينذاك. فذهبت مباشرة الى الاستاذ المرحوم محي الدين يوسف المدير العام في وزارة المعارف واعترضت عنده على تعييني في الوزارة وقلت له كيف تم تعييني وانا لم اقدم طلباً كما انني لم اقدم شهادة عدم محكومية او شهادة جنسية او شهادة طبية وهي الوثائق التي كان المطلوب ممن كان يريد التعيين في الوظيفة ان يقدمها فقال لي اولاً انك اُرسلت طالب بعثة من قبل وزارة المعارف ومن حق وزارة المعارف ان تعينك اينما تريد وقد تم تعيينك في ثانوية التجارة اما قولك بأنك لم تتقدم بشهادة الجنسية العراقية فإنك عراقي الجنسية لانك اُرسلت ببعثة ولا يرسل ببعثة الا العراقي الجنسية اما انك لم تقدم شهادة صحية فانك لم تكن في مجاهل افريقية طيلة الثلاث سنوات الماضية وانما كنت في بيروت جنة الدنيا ولم يأتِ من هناك من الجامعة طيلة تلك السنين تقرير بأنك كنت مريضا وفيما يتعلق بعدم المحكومية فينطبق عليها نفس الشيء بأنك كنت في بيروت وكنت طالباً ولم يأتنا عنك شيء يقف في طريق تعيينك فإذهب الى الثانوية فور انتهاء العطلة. فذهبت الى ثانوية التجارة في باب المعظم وكان مديرها المرحوم سالم مامو وكان رجلاً طيباً جداً ومديراً قديراً واعطيت حينذاك دروس مسك الدفاتر وطرق التجارة وقمت بالتدريس بضعة شهور مع اخواني الذين عُينوا معي من خريجي الجامعة وكان منهم فيصل الدملوجي وخليل الداغستاني وعلي صائب