الفصل الثالث

النقل الى بغداد:

وبعد ثلاث سنوات او اكثر نقلت الى بغداد لاشغل وظيفة في احدى دوائر وزارة الخارجية وكان حينذاك الاستاذ المرحوم السيد يوسف الكيلاني مديراً عاماً للخارجية وذكرني بحادثة وقعت لي معه عندما تم تعييني ملحقاً قبل اربع او خمس سنوات من ذلك التأريخ وهذه الحادثة تتلخص بما يلي: عندما تم تعييننا في الوزارة كان علينا ان نوقع في دفتر الدوام الصباحي كل يوم مثل الاخرين من الموظفين الصغار وبعد يومين او ثلاثة لاحظت ان احد ابناء الذوات المتنفذين في الدولة وكان من زملائي أي من الملحقين لم يوقع ذلك الدفتر، فامتنعت انا عن التوقيع وبعد يوم او يومين جاءتني تذكرة من السيد يوسف الكيلاني بتوقيعه يطلب مني توضيح سبب عدم التوقيع على الدفتر فكتبت له على نفس الورقة التي ارسلها ما يلي: "السيد المدير العام الرعية بالسوية وفلان الفلاني لم يوقع ولم أشأ ان اوقع انا الاخر ايضاً اسوة به" وكان تعليق السيد يوسف الكيلاني رحمه الله في صالحي، اذ قال عني بان لي شخصية قوية وان لي مستقبلاً مهماً. وامر برفع دفتر الدوام بعد ذلك ولم نعد نوقع في دفتر الدوام عدا موظفي السلك المدني من ملاحظين وغيرهم..

وبعد فترة قصيرة من وصولي بغداد ودوامي في وزارة الخارجية اتصل بي هاتفياً السيد محمد علي الجلبي مدير عام مصرف الرافدين ورئيس مجلس الادارة الذي سبق ان تعرفت عليه في باريس كما سبق ذكره وقلت فيه في مناسبة سابقة اتصل بي ليعرض عليّ منصب مدير مصرف الرافدين فرع الباب الشرقي وهو اول فرع يفتح بعد الفرع الرئيس. وبعد مناقشات ومفاوضات بيني وبينه وافقت على ان اكون مديراً للمصرف عند دوامي في مصرف الرافدين أي بدون أي تدريب او أي مساعدة اللهم الا جلوس احد كبار موظفي المصرف معي في الغرفة لبعض المعلومات واتذكر انه كان السيد عبد الكريم قطان الذي كان يعمل في التفتيش بالمصرف اذ بقي معي مدة اسبوع او اكثر فطلبت من محمد علي الجلبي سحبه لاني تعلمت او استفدت منه وصرت استطيع ان ادير المصرف واتذكر ان الجلبي اراد مني ان تكون الاعارة من وزارة الخارجية مدة خمس سنوات وهي اقصى مدة كان يمكن ان يعار فيها موظف حكومي الى دائرة شبه حكومية ولكنني اصررت على ان تكون الاعارة لمدة سنتين فقط قابلة للتجديد. وكانت ظروفي العائلية تستدعي ان ابقى في بغداد مدة معينة ولذلك قبلت وقبل الجلبي بالسنتين مدة الاعارة واعطاني حينذاك ثلاث درجات اضافية اضافة الى درجتي في الوظيفة وكان راتبي في الخارجية آنذاك 25 ديناراً أي انه عرض عليّ ان يكون راتبي 45 ديناراً بالاضافة الى المخصصات الاخرى المتعارف عليها في المصرف والتي كانت تعطى لمدير الفرع وباشرت في المصرف مدة قصيرة عندما جاءني مدير المصرف العثماني الذي كان مصرفه في نفس المنطقة فرع المصرف العثماني واتذكره رجلاً طويلاً يضع مونوكل على انفه وقيل لي ان امه كانت فرنسية وطلب مني اما ان انسحب واقفل المصرف او هو يقفل عائداً. فقلت له: لماذا؟ قال: لانك (خرّبت علينا الشغل) وقلت كيف ذلك؟ قال: لانك سحبت عدداً كبيراً من الزبائن بالنظر للتسهيلات التي كنت تعطيها لهم بينما انا كنت متشدداً معهم لانك تتصرف معهم كصديق وتفتح ابوابك لهم وتعطيهم مساعدات وهذه ليست الطريقة التي نعمل بها نحن في المصرف العثماني لان زبائننا نخبة ممتازة معينة في المجتمع. فقلت له: فليكن ذلك اغلق المصرف انت واذهب حيث تشاء. فقام الرجل وعاد الى مصرفه واتذكر انني عندما تسلمت المصرف او فرع المصرف كان معي ثلاثة او اربعة موظفين اتذكرهم حتى الان وهم صاحب وصفي وبهنام بيثون واحمد الصائغ وموظفة اتذكر اسمها نزهت وبإزدياد الزبائن ازداد عدد الموظفين حتى بلغ ثلاثين موظفاً قبل ان اترك المصرف واتذكر اني انا الذي افتتحت الفرع وكان رقم حسابي في ذلك الفرع (3) وبقيت في المصرف مدة حدثت معي اثناءها بعض الطرائف منها انني عندما كنت  في مكتبي يوماً من الايام جاءني السيد بهنام بيثون وهو متأثر جداً ولما طلبت منه السبب قال ان السبب السيد كاظم الحكيم وكان من اكبر زبائننا آنذاك تحدث معه بطريقة شمَّ منها انه يتهم نزاهته قائلاً له: انك تذهب كل سنة الى لبنان واتذكر ان السيد بهنام كان ذا كلية واحدة وكان يذهب الى لبنان كل سنة للمداواة وكما تعلم ان الذهاب الى لبنان لم يكن بهذه الدرجة من الغلاء وكان العراقيون يترددون على لبنان في الصيف باعداد كبيرة وبعثت الى السيد كاظم الحكيم وكما قلت كان من اكبر زبائننا وسألته فقال لي انا لم اقل كذلك فقلت له بل انت قلت ذلك ولهذا لم يبق لك محل في هذا الفرع. اذهب وخذ اوراقك وحسابك واذهب الى المركز وطلبت من بهنام بيثون ان يصفي حسابه ويعطيه الاوراق والسندات العائدة له ويذهب الى المركز وبعد ساعة اتصل بي محمد علي الجلبي طالباً مني التريث واعادة النظر في الموضوع فقلت له كما اتذكر ان هذا الرجل اتهمني بصورة غير مباشرة، فاما ان اكون مطلعا او اكون لا ادري ما يجري في المصرف ففي كلا الحالتين فاني لا اقبل ذلك ولهذا فلن اعيد النظر في عودة السيد كاظم الحكيم الى المصرف وقال لي كما اتذكر (شبيك مع سميك كاظم) فقلت له اما كاظم الخلف في مصرف الرافدين فرع باب الشرقي او كاظم الحكيم وانصاع الجلبي لما قلت وانتقل كاظم الحكيم من مصرف الرافدين فرع الباب الشرقي الى المركز العام، الامر الذي ارتاح له الموظفون ورحبوا به.

اما الواقعة الثالثة فهي عندما مرت السنتان وطلب اليّ محمد علي الجلبي ان امدد لسنتين اخريين وقال لي كما اتذكر لماذا لا تترك الخارجية وتأتي معنا ونعيّنك معاوناً للمدير العام فاصررت على ان اعود الى الخارجية ولما شهدت منه هذا الاعتماد القوي عليّ والاصرار الكبير على ابقائي معه وافقت على تمديد الاعارة لمدة سنتين اخريين وحسبما اتذكر كانت المدة القصوى للاعارة خمس سنوات للموظف فكتب الجلبي الى وزارة المالية التي كتبت بدورها الى وزارة الخارجية للموافقة على تمديد الاعارة لمدة سنتين اخريين، ولكن الوزير حينذاك المرحوم السيد توفيق السويدي كتب على كتاب وزارة المالية اما ان يعود الى الخارجية او يبقى في المصرف ويترك الخارجية ولما علمت بذلك بصورة خاصة اخبرت الجلبي الذي اتصل بوزير المالية حينذاك واتذكر انه كان علي ممتاز واستحصل موافقة توفيق السويدي على تمديد الاعارة لمدة سنتين اخريين.

حفل تتويج الملك فيصل الثاني:

اتصل بي السيد تحسين قدري الذي كان رئيسي في باريس عندما كان وزيراً مفوضاً وكنت انا ملحقاً وعرض عليّ او طلب مني ان اكون مرافقاً للوفد الفرنسي لحفلات تتويج الملك فوافقت على ذلك واستحصلت موافقة المدير العام للمصرف وذهبت الى القصر ثم ذهبت الى السفارة الفرنسية لارافق الوفد الذي وصل وكان مكوناً من قائد الاسطول الفرنسي في البحر المتوسط والسفير الفرنسي في بغداد والبروفيسور ماسنسيون.

وقد رافقتهم مدة التتويج أي في الايام القليلة التي جرى فيها التتويج واتذكر انه بينما كان الوفد الفرنسي يزور المسؤولين او يقوم بالمهمات الرسمية كان البروفيسور ماسنسيون يتردد على محلات بغداد القديمة وعلى آثارها وعلى معالمها، لكي يتعرف على بغداد التي يحبها كثيراً واتذكر في هذا المجال حفلة التتويج او الحفلة الساهرة الكبرى التي اقيمت في قصر الرحاب في حدائق القصر وكان الزوار والموفدون الرسميون وكبار الموظفين موجودين عندما قرأ الجواهري قصيدة بالمناسبة وكان يقف قبلي او امامي صادق البصام الذي لم تعجبه القصيدة او لم يعجبه ما كان يتفوه به الجواهري في مدح العائلة المالكة وتفوه صادق البصام بكلمات لا اتذكرها ولكنني اتذكر انها لم تكن مناسبة او مؤيدة للجواهري فيما قاله في قصيدته واتذكر ايضاً بهذه المناسبة انه عندما حان موعد العشاء جاءنا احد موظفي القصر ليقول لنا انه اعد لنا مائدة خاصة بعيدة عن المائدة الكبيرة الرسمية أي اعد لنا نحن المرافقين، وكان من المرافقين المرحوم غازي الداغستاني مرافقاً لوفد احدى دول الخليج ولعلها كانت السعودية فلما سمع الداغستاني ما قاله الموظف قال له اذهب الى رئيسك تحسين قدري وقل له نحن لن نتعشى الا مع الوفود فذهب الموظف وجاء تحسين قدري ليعتذر من غازي الداغستاني وليقول لنا اننا نستطيع ان نتناول العشاء مع الوفود وهذا ما حصل وقد كبر في نظري هذا القائد اللواء غازي الداغستاني ولم اكن قد تعرفت عليه من قبل كان انيقاً وصريحاً في احاديثه وكان موقفه موضع تقدير اعضاء الوفد او مرافقي الوفدود وكان منهم عبد المطلب الهاشمي اللواء حينذاك والمرحوم الدكتور عبد الله البستاني وكان استاذاً في الجامعة ولعل صباح نوري السعيد كان ايضاً من جملة المرافقين اذا كنت اتذكر جيداً. وكنت اشعر مدة بقائي في المصرف انني كنت اؤدي خدمة للمجتمع وللبلد خصوصاً عندما كنت اقدم التسهيلات للزبائن الذين كان اكثرهم من عامة الشعب ولم يكونوا من النخبة الممتازة التي اشار اليها مدير المصرف العثماني واذكر بهذه المناسبة ان من بين زبائني المرحوم عبد الرسول علي والمرحوم صالح طعيمه وغيرهما وقد كانوا ممتنين جداً للخدمات التي كنت اقوم بها لهم من ترجمة ومن اعداد بعض الوثائق كما كنت ازورهم وازور الاخرين لاجتذب العملاء والزبائن الجدد كنت ازورهم بعد الظهر واشرب الشاي في محلاتهم وهذا كما يبدو لي ما اثار حفيظة مدير المصرف العثماني الذي انتزعت منه عدداً كبيراً من زبائنه بهذه الطريقة وقبل انتهاء فترة التمديد في المصرف على سبيل الاعارة قبل ذلك بمدة قصيرة اتصل بي السيد المرحوم يوسف الكيلاني المدير العام في وزارة الخارجية ليقول لي انه تقرر ان ارسل الى نيويورك للعمل وانه لم يعد بالمستطاع تمديد خدماتي سنة اخرى وهي المدة المتبقية من المدة القصوى التي يمكن ان يعار منها الموظف. ولما اتصلت بمحمد علي الجلبي لاقول له ذلك كرر عليّ بما سبق ان عرضه بأن يعينني معاوناً للمدير العام اذا وافقت على ترك الخارجية والبقاء معه في المصرف لكن عملي في الممثلية وسفري الى نيويورك كان احب اليّ من عملي وبقائي في المصرف كما انني كنت من موظفي الخارجية ولم أشأ ان اترك وظيفتي او مسلكي الذي اخترته بنفسي وتقدمت للامتحان فيه وكان ذلك قبل بضع سنوات.

الممثلية الدائمة في نيويورك:

وبعد اسابيع قليلة انفككت من مصرف الرافدين والتحقت بوزارة الخارجية التي لم يطل بقائي بها كثيراً عندما ارسلتني الى الممثلية الدائمة في نيويورك لاقوم بالعمل فيها. وكان حينئذ الممثل الدائم المرحوم عوني الخالدي وكان رجلاً طيباً ومقتدراً ومحبوباً من قبل الممثلين الدائميين كما انه كان يتعاطى الشعر وكنا نتبادل الاشعار بين الفينة والاخرى انا وهو واذكر بالمناسبة انه قد جرى ايضاً نقل السيد علي صائب الى نفس المكان في الممثلية فعملنا سوية ولم تمض مدة قصيرة الى ان جاءت برقية من بغداد تخبر السيد عوني الخالدي بانه قد عُين سكرتيراً عاماً لميثاق بغداد وكان متردداً جداً في قبول ذلك العرض لانه كان متعلقاً بالامم المتحدة تعلقاً شديداً ولم يكن باستطاعته عمل شيء اخر لكننا شجعناه بالقبول بأسرع ما يمكن كما طلبت تلك البرقية واتذكر انني قلت له انك الان تشبه في مقامك مقام امين عام الجامعة العربية او حتى امين عام الامم المتحدة فضحك وذهب الى بغداد للالتحاق بوظيفته كسكرتير عام لميثاق بغداد، واتذكر انه قد تسلم منه مهام الممثلية الدائمة لدى الامم المتحدة في نيويورك عند سفره حينذاك المرحوم الاستاذ عبد الكريم الكيلاني الذي كان قنصلاً عاماً في نيويورك وهو الاخر كان رجلاً طيباً محبوباً من قبل زملائه وموظفيه ولكنه لم يبق فترة طويلة في هذا المنصب لان الاستاذ المرحوم هاشم جواد جاء ليكون ممثلاً دائماً للعراق في الامم المتحدة حينذاك وكنت قد توليت وكالت الممثل الدائم بعد نقل عبد الكريم الكيلاني الى بغداد وقبل وصول هاشم جواد.

ويسرني بهذه المناسبة ان اقول انني رشحت من قبل الحكومة العراقية حينذاك لعضوية اللجنة الاستشارية لامور الادارة والمالية للامم المتحدة وكان ينافسني فيها عن المنطقة مستشار الممثلية الدائمة الاسرائيلية في نيويورك وكانت المنافسة حادة وكان هناك من يشك في امكان نجاحي في المنافسة بالنظر لاهمية اللوبي الصهيوني وعلاقات اسرائيل بالدول الغربية ومن يتبعها من تلك الدول ومن الذين كانوا يشكون في امكانية نجاحي الدكتور فاضل الجمالي وزير الخارجية الذي تساءل في اجتماع للوفد العراقي قبل الانتخابات بيومين او ثلاثة ان كنت متأكداً من النجاح، وقد حذرني من مغبة نجاح الممثل الاسرائيلي، وتساءل كما تساءل غيره ان لم يكن بالامكان ترشيح السيد رفيق العشة سفير سوريا في الامم المتحدة للعضوية مرة ثانية او ثالثة كما اتذكر وعندما رأيت الدكتور الجمالي يشكك في امكانية نجاحي قلت له بالحرف الواحد امام الوفد العراقي انني مستعد ان اقدم استقالتي من الوظيفة واضعها تحت تصرفه ليقبلها في حالة اخفاقي وكان هناك في الوفود العربية كما قلت من كان يشكك في انتخابي ويفضل بصورة او بإخرى تقديم السيد رفيق العشة الذي كان يطمع في انتخابه ويسعى له مرة ثالثة ولكن ترشيحي كان قد وافقت عليه الدول العربية في مجلس الجامعة الذي عقد قبل اجتماعات الامم المتحدة كما هي الحال كل سنة وكانت الانتخابات سرية وقد فرحت كثيراً عندما ظهرت النتيجة ونجحت في الانتخابات ليس ذلك وحسب بل حصلت على اصوات اكثر من الاصوات التي حصل عليها ممثل فرنسا الذي كان هو الاخر مرشحاً للعضوية. وذهبت مع اعضاء اللجنة الاخرين الى فينا لمراجعة الشؤون الادارية والمالية لوكالة الطاقة الذرية واعجبت بعاصمة النمسا ومناظرها ومرافقها ومقاهيها وقصورها.وذهبت في مهمات مماثلة مه اللجنة الى روما وجنيف في منظمة الزراعة الدولية ومنظمة الصحة العالمية .

وكانت الممثلية تتألف من ثلاثة او اربعة موظفين اتذكر منهم السيد عصمت كتاني والسيد اسامة تحسين قدري بالاضافة الى السيد علي صائب وتوفيق عبد الجبار وكان يعمل ككاتب محلي كما اتذكر السيد صباح المتولي الذي كان على استعداد لمساعدتنا في كل ما كنا نحتاج اليه من خدمات وكان لطيفاً جداً ومتعاوناً واتذكر انه في تلك الفترة او قبلها بقليل جاءتني دعوة من مؤتمر الطلبة العرب السنوي لالقاء محاضرة عن الاحلاف وعن حلف بغداد بصورة خاصة فارسلت الدعوة الى وزارة الخارجية التي وافقت عليها على ان اذهب الى واشنطن لاستنير برأي الاستاذ موسى الشابندر السفير في واشنطن حينذاك وذهبت الى واشنطن وقابلت السفير الذي هو الاخر كان مدعواً لحضور المؤتمر كضيف شرف مع عقيلته وذهبت وزوجتي الى جامعة اوكلاهاما او فرعها في مدينة ستل وتر وجاء الاستاذ الشابندر مع عقيلته لحضور المؤتمر والقيت المحاضرة التي كنت قد كتبت نصها في نيويورك وبعد المحاضرة التي حضرها عدد كبير من الطلبة العرب جرت المناقشة وكانت الاكثرية الساحقة من الحضور ضد الاحلاف وضد حلف بغداد بصورة خاصة وكان في مقدمة المعارضين شاب اسمر وقف عند باب القاعة الكبيرة المكتظة بالحاضرين وناقشني بحماس وقوة واقتدار واتذكر انه سألني في اخر المناقشة ان كان الذي قلته في تلك المحاضرة هو تعبير عن رأيّ الشخصي؟ فقلت له: كلا، انه رأي الحكومة التي جئت لامثلها في هذا المؤتمر وكان ذلك كما ذكرت بحضور السفير الشابندر وعلمت بعد ذلك ان الذي ناقشني بتلك القوة وتلك الصراحة واحرجني في بعض الاحيان كان الدكتور سعدون حمادي الذي كان يعد الدكتوراه وبعد مرور سنين قليلة كانت ثورة 1963 التي اعادتني الى الوظيفة بعد ان كان فصلني منها عبد الكريم قاسم قبل ذلك بشهور وكم كان سروري عظيماً عندما التقيت في احدى الحفلات الدكتور سعدون حمادي وكان وزيراً للاصلاح الزراعي في حكومة الثورة وذكرني عندما رأيته حينذاك بالمحاضرة والمناقشات التي جرت بعدها قائلاً لي لا عليك لانك كنت تمثل الحكومة كما ذكرت في المناقشة.

لقد كان الاستاذ هاشم جواد رحمه الله سفيراً متمكناً وكانت انكليزيته جيدة جداً كما كانت خطاباته من احسن الخطابات التي القيت في قاعات الامم المتحدة وكانت له شخصية خاصة وموقع خاص بين الممثلين الاجانب والعرب ولكن كان يؤخذ عليه انه كان عصبي المزاج يحب ويكره كما انه لم يكن في سياسته على وفاق تام مع سياسة حكومته آنذاك فكان اقرب الى ممثلي الدول الاشتراكية ودول عدم الانحياز، الهند واندونيسيا منه الى ممثلي الدول الغربية مما جعله يتجاهل احياناً تعليمات حكومته وكان اخر تلك التصرفات انه لم يصوت الى جانب قبرص عندما كان الموضوع يُناقش في المنظمة مما دعا الى سحبه الى بغداد آنذاك لانه لم يتقيد بتعليمات حكومته وكمثال على ما كان يفعله في التقرب من الاشتراكيين ودول عدم الانحياز ما جرى في مجلس الامن عندما كان المجلس يناقش مسألة كشمير. لقد كان العراق حينذاك عضواً في المجلس وكان الاستاذ هاشم جواد ممثل العراق فيه وكنت معتمداً من قبل الحكومة كنائب له في المجلس وعندما كان في المجلس كانت هناك قضية كشمير كما ذكرت وكانت اكثرية المجلس مع الباكستان وضد الهند وكان ممثل الهند في تلك المناقشات وزير الدفاع الهندي المعروف كرشنامنن وكان خطيباً بارعاً ومناقشاً مقتدراً ويقارع الحجة بالحجة ولم يتحرج في بعض الاحيان من ان يكون خشناً الى درجة ما في المناقشة وقد صادف ان الاستاذ هاشم جواد كان احد اعضاء المجلس وكان حينذاك احد اعضاء مجلس ادارة منظمة العمل الدولية مما جعله يضطر الى مغادرة نيويورك والذهاب الى جنيف لحضور اجتماعات مجلس الادارة وقد كان عليّ ان اقوم بتمثيل العراق في مناقشات مجلس الامن وبالنظر لاقتراب موعد ابداء وجهة نظر العراق في الموضوع فقد اعد الاستاذ هاشم بنفسه خطاباً يتضمن وجهة نظر الحكومة العراقية وكانت بالطبع مؤازرة للباكستان وتم طبع الكتاب بوجود الاستاذ هاشم وتدقيقه وتضمن الخطاب كما ذكرت وجهة نظر الحكومة العراقية في الموضوع وطلب مني اذا جاء دور العراق ان القي الخطاب الذي كان قد اعده بنفسه مما اثار وزير الدفاع الهندي كرشنامنن الذي كان وانا القي الخطاب يسأل معاونيه عن هذا الولد الذي كان يناقشه وبعد يومين او ثلاث عاد الاستاذ هاشم الى نيويورك بطلب والحاح مني لاني لم اكن آنذاك اكثر من سكرتير ثاني او اول ولم يكن من المناسب او الممكن ان اترأس جلسات مجلس الامن وكان حينذاك دور العراق في الرئاسة وفي المجلس حينذاك كبار من ممثلي الدول المختلفة وكان للمجلس حينذاك هيبة خاصة في الامم المتحدة وجاء الاستاذ هاشم جواد ليترأس الجلسة التي اعقبت الجلسة التي القيت فيها الخطاب الذي كان يعبر عن وجهة النظر العراقية والذي اعده كما ذكرت بنفسه وثم طبعه باشرافه وكان دور العراق في رئاسة المجلس. وعندما تحدث كرشنامنن لمناقشة بعض اعضاء المجلس ذكر موقف العراق قائلاً ومخاطباً رئيس المجلس الاستاذ هاشم جواد ان الشاب الذي يجلس وراءك قال كذا وكذا واثار ذلك ثائرتي وطلبت من الاستاذ هاشم ان يرد عليه ويقول له انني لم اكن اتحدث بصفتي الشخصية بل كنت اتحدث من خطاب اعده هو بنفسه الا انه لم يوافق على ذلك وقال لي ليس من المناسب مناقشته فانه عصبي المزاج وغريب الاطوار ولم يكن بالامكان مناقشة هاشم جواد الذي كان يريد ترضية او عدم اغضاب كرشنامنن ممثل الهند حينذاك، ومثل اخر على عصبية وعنجهية وزير الدفاع الهندي انه في احدى المرات كان يرد على خطاب السفير البريطاني السير بيرسون ديكسون وكان ذا شخصية محترمة في المجلس واثناء خطاب الوزير الهندي طلب السفير البريطاني كما يبدو من احد معاونيه شيئاً كأن يكون وثيقة او بيان فصرخ الاستاذ كرشنامنن قائلاً اطلب من السفير البريطاني ان يصغي اليّ جيداً عندما اخطب وكنت قبل قليل اصغي الى خطابه المملّ وثارت ثائرة الوفد البريطاني وكان الوقت قد قارب من الانتهاء واعلن رئيس المجلس تأجيل الجلسة ورفض الوفد البريطاني  ان يحضر الى جلسة المجلس بعد الظهر الا بعد ان يعتذر وزير الدفاع الهندي وجرت مناقشات طويلة وعريضة قبل ان يعقد الاجتماع وبعد مداولات ومناقشات وافق وزير الدفاع الهندي على ان يعتذر في بداية الجلسة لكي يحضر الوفد البريطاني وحضر الوفد البريطاني الجلسة وابتدأ المندوب الهندي بالجلسة قائلاً لقد اخبرت انني قد اكون تجاوزت بعض الشيء في خطابي الاخير على احد اعضاء المجلس فان كنت قد فعلت ، فاني لم اقصد ذلك ووافق الوفد البريطاني كما يبدو مسبقاً على هذا الشكل من الاعتذار وكان اعتذاراً غير مباشر وعلى الطريقة الشرقية كما يحلو لي ان اقول.

ولم اكن من مقربي الاستاذ هاشم جواد كما كان بعض زملائي في الممثلية وذلك لانني كنت كما اعتقد مستقلاً في رأي الخاص وفي بعض الاحيان كنت اشير الى ازدواجيته في اداء وظيفته وقد سلمني الممثلية على مضض عندما استدعته الحكومة الى بغداد بعد موقفه من قضية قبرص التي اشرت اليها آنفاً وعندما عاد هاشم جواد الى بغداد تم اعتماد السيد موسى الشابندر سفير العراق في واشنطن ممثلاً للعراق في مجلس الامن وبقيت انا نائباً له في ذلك المجلس وقد اصبحت وكيلاً للممثل الدائم للعراق في الامم المتحدة بعد غياب السيد هاشم جواد وبعد اشهر قليلة وصل الى نيويورك ممثل العراق الدائم الجديد الدكتور عبد المجيد عباس لتسلم الممثلية مني وقد تسلمها في 1/تموز/1958 وبينما كان الممثل الدائم الجديد الدكتور عبد المجيد عباس يعد نفسه لهذه المهمة الجديدة وترتيب اموره الخاصة والعامة، اندلعت ثورة 14 تموز 1958 أي بعد خمسة عشر يوماً من تسلم منصبه الجديد.

سقوط الملكية ومجيء عبد الكريم قاسم:

واذكر ان مراسل رويتر وكان اسمه ليتل جون ايقظني من نومي في منتصف الليل ليخبرني بالثورة ويسألني عن عبد الكريم قاسم الذي لم اكن اعرف عنه شيئاً واتصلت فوراً بالدكتور عبد المجيد عباس الذي ظل طوال الليل يناديني تلفونياً ان كان لدي اخبار من بغداد ولم تأتِ اية اخبار حينذاك وفي الصباح ذهبنا الى الممثلية انا وزملائي عصمت كتاني واسامة تحسين قدري وتوفيق عبد الجبار ذهبنا الى الممثلية وبعد ذلك اصطحبت الدكتور عبد المجيد عباس وذهبنا الى مجلس الامن لانه لم يكن لدينا اية تعليمات من بغداد وكل ما كان لدينا هو اخبار من الاذاعات وفي مساء اليوم التالي جاءت الى الممثلية برقيتان واحدة من وزارة الخارجية للاتحاد الهاشمي وكان قد تشكل حديثاً تطلب منا الاستمرار بالعمل والاستعداد لدفع رواتبنا وانتظار التعليمات والبرقية الثانية من بغداد كانت بالجفرة تطلب الينا عدم حضور جلسات مجلس الامن وان هاشم جواد بالطريق وذهبت بالبرقيتين الى الدكتور عبد المجيد عباس وقلت له نحن من الان فصاعداً سنمتنع عن حضور اجتماعات مجلس الامن فقال لي ان وزارة الخارجية للاتحاد الهاشمي تطلب منا الاستمرار فقلت له ان الممثلية تابعة لوزارة الخارجية ببغداد ووزارة الخارجية في بغداد لم تلغ بعد، كما ان للاردن ممثله الدائم واسمه طوقان ولذلك فاننا نتصل ببغداد وبما ان بغداد طلبت منا عدم الحضور فاننا لن نحضر منذ الآن الى مجلس الامن وفي الصباح ذهب عبد المجيد عباس لوحده الى مجلس الامن وجلس في المقعد العراقي في المجلس ولم يكن معه الا كاتبة الممثلية الاسترالية الجنسية المس يلر وفي اليوم التالي ذهبت الى دار الممثلية في الصباح لاجد رجلاً غريباً في الخمسين من عمره وقد اشغل غرفة مقابل غرفة الممثل الدائم عبد المجيد عباس وعندما سألت المستخدم عن ذلك قال انه ارسل كما يبدو من قبل المخابرات الامريكية لحماية الدكتور عباس الذي قيل انه تلقى تهديداً هاتفياً من واشنطن وقيل ان المهدد كان معاون الملحق العسكري العراقي في واشنطن وفي اليوم التالي وصل هاشم جواد وكنا في استقباله في المطار وبعد يومين او ثلاثة ارسل السكرتير العام وكان (همر شولد) ارسل على عبد المجيد عباس واخبره ان الدول الكبرى اعترفت بالثورة وانه لم يعد منذ ذلك الحين ممثلاً للعراق في الامم المتحدة وان الممثل هو هاشم جواد وعلى ذكر (همر شولد) يطيب لي ان انتهز هذه الفرصة لاثني عليه وعلى شخصيته القوية واعتداده بنفسه وجرأته وقد كنت حاضراً في مجلس الامن قبل ذلك بسنوات عند مناقشة العدوان الثلاثي على مصر 1956 عندما القى خطابه المعروف في مجلس الامن والذي اعترض فيه على ما كان يجري في المنطقة وهدد بالاستقالة لانه لم يكن على اطلاع عما كان يجري.. وقد يكون من المناسب ايضاً ان اذكر انه لولا معارضة همر شولد وامتعاض وغضب ايزنهاور رئيس الولايات المتحدة حينذاك لانه لم يطلع على العدوان قبل حدوثه بل اطلع عليه بعد حدوثه ولولا تهديد الاتحاد السوفيتي بالتدخل بالنزاع لما انسحبت اسرائيل وحلفاؤها. وقد تحدى ايزنهاور بذلك نفوذ اللوبي الصهيوني المعروف في الولايات المتحدة. وذلك عندما رشح ايزنهاور نفسه للمرة الثانية لرئاسة الجمهورية لم يستطع اللوبي الصهيوني التأثير عليه وقد تم نجاحه واشغل منصب رئاسة الجمهورية لفترة ثانية.

ويجدر بي بهذه المناسبة ان اشير الى ما ورد بكتاب للاستاذ خليل ابراهيم الزوبعي عن ثورة تموز بعنوان (عبد الكريم قاسم السر المبهم). من ان اعضاء الممثلية الدائمة في نيوريوك كانوا ضد الثورة فاقول بان ذلك لم يكن دقيقاً لانه بعيد عن الواقع ودليلي على ذلك بأنهم لو كانوا أعداء للثورة او لم يؤمنوا بها لما بقوا في مناصبهم سنة او سنتين بعد ذلك بل كانوا قد عوقبوا على الفور وقد تم نقلنا بعد مدة بعد ما قضينا المدة المعروفة او المعترف بها في وزارة الخارجية وهي ثلاث سنوات او اكثر نقلنا بعد الثورة بشهور طويلة الى اماكن متعددة منها بغداد وجنيف وغيرها وقد عدت انا الى بغداد لاشغل منصب المدير العام لدائرة الامم المتحدة والمؤتمرات الدولية التي بقيت فيها مدة الى ان تم نقلي الى بون لاكون قائماً بالاعمال هناك وقد بقيت في بون مدة سنتين او اكثر. وقد بعث عليّ حينذاك الاستاذ هاشم جواد الذي كان وزيراً للخارجية ليقول لي انه قرر ارسالي الى بون لاقوم باعمال السفارة هناك في تلك الظروف وكانت الظروف التي يمر بها البلد ظروفاً غير اعتيادية وكانت محكمة المهداوي قائمة على قدم وساق الامر الذي عقد مهمتي كقائم بالاعمال في بون كما سيجري الحديث عنه بعد ذلك وقد ترددت في قبول الوظيفة الجديدة ولكنه اصر على ذلك وقال ان الزعيم عبد الكريم قاسم على اطلاع في الموضوع وانه يؤيد ارسالي الى ذلك الموقع.